رحى للمدن القديمة

النحت في الممالك الآرامية نماذجه وخصائصه

يختلف الفن في كلّ عصرٍ وفي كلّ مملكةٍ ومدينةٍ، ويكونُ هذا الاختلاف تبعاً لطبيعة البيئة المحيطة والظروف المدنية والحالة السياسية التي تنعكس على الأعمال المنفذة. لكن لابدّ من ظهورِ تشابهاتٍ وتأثيراتٍ متبادلة بين فنون المدن عبر العصور، نذكرُ منها فن النحت في زمن نشوء الممالك الآرامية.

 

ظهر الآراميون منذ النصف الثاني في الألف الثاني قبل الميلاد في منطقة الشرق القديم، وأقاموا في عددٍ من المدن التي سيطر عليها الحثيون وأنشأوا مدناً أخرى وفي مطلع الألف الأول قبل الميلاد أصبح لهم ممالك لُقبت بأسماء قبائلهم. وانتشرت هذه الممالك على منطقة واسعة من جنوب وشمال بلاد ما بين النهرين وحتى الأناضول وبلاد الشام الداخلية.

من أشهر الممالك التي ظهرت في سورية بيت بخياني وعاصمتها جوزانا (تل حلف) على منابع الخابور، ومملكة لاقي على الفرات، وبيت عديني وعاصمتها تل برسيب (تل أحمر) في الجزيرة السورية العليا وبيت أدي/ حداتو (أرسلان طاش)، وبيت أجوشي التي يُعتقد بأن عاصمتها أرفاد (تل رفعت)، وعين داره، ومملكتا حماه ودمشق، وهنالك شمأل (زنجرلي) في الأناضول، وغيرها من الممالك التي وردت في النصوص.

خريطة توضح توزع الممالك الآرامية
خريطة توضح توزع الممالك الآرامية

تعدد أشكال المنحوتات في الممالك الآرامية

عُثر في مواقع الممالك الآرامية على آثارِ نحتٍ نافر بتأثيرات فنية آشورية وحثية وكنعانية، لكن لها سمات آرامية. ولقد تعددت نماذج أشكال النحت من لوحاتٍ حجرية ومنحوتات جدارية وأنصاب وشواهد قبور وتماثيل.

 

كثرت اللوحات الحجرية المنحوتة من ألواح كلسية أو بازلتية وزُينت بها مداخل وجدران القصور والمعابد، نُفذ بعضها بدقة وحرفية أكسبها واقعية والبعض الآخر كان مختزلاً لا يُعنى بالتفاصيل وبسيطاً. وأهم الأشكال التي نُحتت كانت لآلهة أو تصزير لموضوعات حربية أو مدنية كمشاهد الصيد بالإضافة إلى أشكال خيالية مركبة من أعضاء كائنات حية متنوعة فتميزت بالتقليدية والابداع. أبرز ما في اللوحات الآرامية أنها تصور مشهد فردي ضمن اللوحة الواحدة، وليست مشهد متشعب يُنقش في عدة لوحات مثل المنحوتات في العصر الآشوري.

من أمثلة اللوحات الحجرية ما عثر في جوزانا من لوحات كبيرة كانت تزين الواجهة الرئيسية للقصر الغربي (المعبد القصر) في الألف الأول قبل الميلاد، وهي تجمع بين النحت النافر والنحت المجسم فنُقشت الحيوانات بالإضافة إلى مشاهد الصيد والمشاهد الميثولوجية. بينما كانت اللوحات الصغيرة التي تُعرف بالأرثوستات تغطي كسوة الجزء السفلي لجدار الواجهة الخلفية للقصر، فكان الغرض منها حمايته وتزيينه بأسلوبٍ تناوبت فيها ألوان الحجارة بين الحجر الكلسي الأبيض والحجر البازلتي الأسود واستخدم أيضاً الحجر الكلسي الأحمر، فنُقش قرص الشمس المجنح، والصياد، والحيوانات المتصارعة، ورماة النبال، والكائنات الخرافية وغيرها. ونحتت هذه الأشكال بمستويات مختلفة، مما قد يدل على أنها نتاج أكثر من مدرسة فنية واحدة.

إحدى اللوحات التي تزين الواجهة الرئيسية للقصر قي جوزانا
إحدى اللوحات التي تزين الواجهة الرئيسية للقصر في جوزانا
أرثوستات من جوزانا (إحدى الممالك الآرامية)
أرثوستات من جوزانا تمثل مشهد صيد (قرن 10 ق.م- قرن 9 ق.م)

 

كما نحت الآراميون الأنصاب والمسلات التي تمثل موضوعات دينية وحربية على بعضها كتابات، منها نصب في ترقا (تل العشارة) في الفرات التي كانت تتبع لمملكة لاقي الآرامية. يُمثل النصب انتصار الملك الآشوري توكولتي نينورتا الثاني في القرن التاسع قبل الميلاد على المملكة الآرامية، إذ نُقش الإله حدد وهو يقبض على الحية التي ترمز إلى مدينة ترقا ويهم بقطع رأسها بالفأس بينما يبارك المشهد أدد نيراري الثاني على الوجه الثالث للنصب. وهذا النصب يخالف الفن الآشوري ويشبه الفن الآرامي.

ترقا (تل العشارة)
نصب من مملكة لاقي يظهر فيه الإله حدد
ترقا (تل العشارة) إحدى الممالك الآرامية
رسم للنصب بكافة جهاته

 

وُجدت أيضاً في مملكة بيت عديني في قصر تل برسيب منحوتة جدارية نُقش عليها جذع نخلة يشب عليها حيوانان مجنحان متقابلان وهي تشابه منحوتات جوزانا، بالإضافة إلى منحوتات أرسلان طاش.

أرثوستات من تل برسيب (تل أحمر)
أرثوستات من تل برسيب
أرسلان طاش إحدى الممالك الآرامية
جزء من اللوحات الجدارية في أرسلان طاش

 

ولقد كسيت واجهات معبد عين داره باللوحات البازلتية على شكل أسود وأبي الهول، وتقوم في الحرم أيضاً لوحات حجرية تمثل الآلهة والكائنات خرافية. واكتشف في دمشق في حرم المسجد الأموي لوحة بازلتية تعود إلى العصر الآرامي نُقش عليها أبو الهول وفي مقارنتها مع أبو الهول في عين دارا نلاحظ تبايناً واختلافاً.

لوحة من مملكة دمشق الآرامية
لوحة من مملكة دمشق الآرامية
عين داره
منحوتة من معبد عين داره

ونذكر لوحة من قلعة حلب، نقش فيها مشهد من رجلان مجنحان وبين رأسيهما الهلال الذي يطوق الشمس. نلحظ فيها الايجاز في تكوين الأعضاء واعتماد الظلية في رسم الأشكال من خلال نحتها بأسلوب نافر.

منحوتة من قلعة حلب
منحوتة من قلعة حلب تعود إلى القرن 9 ق.م معروضة في متحف حلب الوطني

وتعد منحوتات مدينة شمأل في الأناضول من آثار الممالك الآرامية الهامة. فلم يبتعد النحّات عن النمط الثابت الذي سار عليه النحّاتون في العواصم الآرامية والحثية، والذي يتمثل بنقش صورة مستقلة ومشهد واحد في كل لوحة. فالنقوش لا تؤلف موضوعاً يتكون من عدة مشاهد، وتتسم بالبساطة فلا يوجد تمثيل للتفاصيل والواقعية ليست على درجة واحدة فهي متباينة.

من اللوحات ما يمثل موضوعاً عن حياة القصر في لوحة من القرن الثامن قبل الميلاد، تمثل مشهد الملك بر راكب على العرش يرفع يده اليمنى، ويقابله الكاتب وهو يمسك ورقة البردي والمحبرة وهنالك كتابة آرامية. في هذه اللوحة يتشبه الملك بالملوك الآشوريين.

منحوتة من شمأل (زنجرلي)
منحوتة للملك بر راكب من شمأل

التماثيل

نحت الآراميون التماثيل الكاملة من الكتل الحجرية الكبيرة والبازلتية بخاصة، وغلب على هذه التماثيل الجمود وعدم وجود تفاصيل فبقيت الكتلة الحجرية هي المهيمنة، وغابت عنها الواقعية والحيوية. لكن جرى تطور هام في وظيفة التماثيل فبعد أن كانت عنصراً منفرداً أصبحت جزءاً أساسياً من البناء، وأصبح لها وظيفة معمارية إلى جانب وظيفتها الزخرفية والميثولوجية. والدليل الجليّ على ذلك التماثيل التي حلّت مكان الأعمدة في مدخل القصر في جوزانا.

تماثيل مدخل القصر في جوزنا (تل جلف)
مدخل متحف حلب الوطني

وعُثر على العديد من التماثيل المنفردة في أسلوبها لكنها آرامية المنشأ في معظم الممالك منها تمثال لملك أرفاد وتمثال لحدد يسعي في تل الفخيرية. بالإضافة إلى منحوتات السباع التي تزين وتحمي مداخل المدن والقصور مثل السباع في حماه وتل برسيب وعين داره.

الأسد في تل برسيب (تل أحمر)
أسد تل برسيب
أسد عين داره
أسد عين داره

ولقد اشتهر الآراميون بنحت شواهد القبور، فتمّ تصوير الموتى وهم يتناولون الطعام والشراب. وما ذُكر من أمثلة ليست إلا جزءاً من عددٍ أكبر من الأعمال النحتية التي سينتج عن دراستها بشكل تفصيلي، معرفة ماهية المواضيع وأساليب النحت المتبعة وكيفية تنفيذها ضمن مدرسة واحدة أو مدارس متعددة في العصر نفسه.

 

المراجع

  • محيسن، سلطان. آثار الوطن العربي القديم الآثار الشرقية. مطبوعات جامعة دمشق 1987م.
  • أبو عسّاف، علي. فنون الممالك القديمة في سورية. دار شمأل، دمشق 1993م.